للفقر عند السالكين إلى الله وقع مطرب ودلالات متفاوتة في حسنها وعمقها وقد نتعرف على بعضها في مناجاة الحسين -عليه السلام- في عرفة:أتوسل إليك بفقري إليك
فالأستغناء بأي صفة، هو بمثابة جدار يحجب جزءاً من نور الشمس المشرقة على نفس المتوسل.
ولذا ورد عن أهل السلوك: "إذا تم الفقر فهو الله"، بإعتبار أن الفقير ليس له ما يحجبه عن الإستنارة، فيغمره النور الإلهي.
ويروى عن المسيح -عليه السلام-:
بحق أقول لكم أن أكناف السماء خالية من الأغنياء
ولكن لا تقف دلالة الفقر في هذا الحديث -لدى العارفين- عند هذا الحد، بل وجدوا فيه بياناً فريداً للمقام المحمدي، فمادام حديث "الفقر فخري...." بصدد المقارنة مع سائر الأنبياء فلابد من إشتماله على خصيصة محمدية، وهذه الخصيصة كما يظهر من كلماتهم[4] مبنية على مقدمات:
1- ما يظهر من النصوص من أن الكون هو مظاهر الأسماء الإلهية ففي الدعاء عن الإمام علي-عليه السلام-:
وبأسمائك التي ملأت أركان كل شيء
2-أن آدم استحق الخلافة لأنه المعلّم بهذه الأسماء وله أن يحكم بحسب سلطنة هذه الأسماء
كما خاطب الله داود -عليه السلام-:
ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق[6]
3- أن الأنبياء لم يتحققوا بالفقر الذاتي التام، بل كان الفقر فيهم عرضياً لأنهم ظهروا متحكمين بسلطنة الأسماء الإلهية، فبقوة الإسم الذي ظهرت في دائرته نبوة موسى-عليه السلام-فلق موسى البحر، وبقوة الإسم الذي ظهرت في دائرته نبوة عيسى -عليه السلام-أحيى عيسى الموتى، وخلق من الطين طائراً وهو المقصود بقوله:
فيكون طيراً بإذن الله
فكان الظهور بهذا السلطان الإلهي مانعاً عن التحقق بالعبودية التامة والفقر الذاتي كما تيسر لمحمد -صلى الله عليه وآله وسلم-، الذي لم يظهر بسلطان كوني، فخرج من دائرة سلطان الأسماء، ووقع في عبودية "الله" –تعالى- المطلق عن التعين بالأسماء،وهو الأصل الذي تشتق منه الأسماء، وهنا يسميها ابن عربي (العبودة) التي لاتشوبها الربوبية[8]، لأن ياء النسبة تناسب المظاهر الأسمائية التي هي محل دعوى الربوبية، أما عبد الله فهو المستتم لعبادة الله بجميع أسمائه فهو جامع النسب فما ظهر به الأنبياء من التصرف الكوني إنما كان في دائرة السلطان المحمدي .
وحيث كانت الأسماء لها مظاهر كونية، والإسم الله الجامع لامظهر له في الكون بل هو الأصل في حقائق الأسماء، فكذلك عبد الله هو الأصل في ظهور دوائر النبوات المحكومة بهذه الأسماء. ولذا قال -صلى الله عليه وآله وسلم-:
وبه أفتخر على سائر الأنبياء
وقال-صلى الله عليه وآله وسلم-:
آدم ومن دونه تحت لوائي
وإذا كان الهدى التكويني هو ما أظهره الله تعالى من التكوين بأسمائه
أعطى كل شيء خلقه ثم هدى
فيمكن أن نفهم معنى الضلال المقابل للهدى الجامع التكويني في قوله –تعالى-:
ووجدك ضالاً فهدى
إذ هو إشارة إلى هذا المقام الجمعي الذي لم تتعين فيه الإسماء الإلهية، وظهر منه محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- بنـزوله إلى الهدى الأسمائي. وقد كان يقول-صلى الله عليه وآله وسلم- في دعائه:
زدني تحيراًإشارة إلى ذلك المقام اللا تعيني
وقل مثل ذلك في قوله تعالى:
ماكنت تدري ماالكتاب
فالكتابة هي الكلمات التي تقطع إليها النفس فانطبعت في قابل، لذلك لا خبر عنها في عالم الكلمات التامات العلمية المستجّنة في الغيب بنحو الجمع وقد قال -صلى الله عليه وآله وسلم-
أوتيت جوامع الكلم