إشترط الفقهاء لصيغة الإيجاب والقبول : أن تكون بلفظين وُضِعا للماضي ، أو وُضِعَ أحدهُما للماضي والآخر للمستقبل . فمثال الأول : أن يقول العاقد الأول : زوَجتُكَ إبنتي ، ويقول القابل : قَبِلتُ . ومثال الثاني : أن يقول الخاطب أزوجكَ إبنتي ، فيقول له : قَبِلت . وإنما إشترطوا ذلك لأنَ تحقُق الرضا من الطرفين وتوافق إراَداتهُما هو الرُكن الحقيقي لعقد الزواج ، والإيجاب والقَبول مظهران لهذا الرضا كما تقدم ، ولابد فيهِمَا من أن يدُلا دلالةً قطعيةً علي حصول الرِضا وتحقٌقه فِعلاً وقت العقد .
والصيغة التي إستعملها الشارِع لإنشاء العقود هي صيغة الماضي ، لأن دلالتهَا علي حصول الرِضا من الطرفين قطعية ، ولاتحتمل أي معني آخر ، بخلاف الصيغ الدالة علي الحال أو الإستقبال ، فإنها لاتدُل قطعاً علي حصول الرضا وقتَ التكلُم . فلو قال أحدَهُما : أُزَوجُكَ إبنتي ؟ ، وقال الآخر أقبل - فإن الصيغة منهُمَا لاينعقدُ بها الزواج ،لإحتمال أن يكون المُراد من هذه الألفاظ مجرد الوعد . والوعدُ بالزواج مُستقبلاً ليس عقداً له في الحال . ولو قال الخاطِب : زوِجنِي إبنَتَك : فقال الآخر زوجتها لك - إنعقد الزواج ، لأن صيغة " زوجني " دالة علي معني التوكيل ، والعقد يصح أن يتولاه واحد من الطرفين . فإذا قال الخاطب : زوجني ، وقال الطرف الآخر : قبلت ، كان مؤدي ذلك أن الأول وكل الثاني ، والثاني أنشأ العقد عن الطرفين بعبارته .
إشتراط التنجيز في العقـــــــــد : كما إشترطوا أن تكون مُنجِزة : أي أن الصيغة التي يُعقَد بِهَا الزواج يجب أن تكون مُطلقة غير مُقيدة بأي قيد من القيود ، مثل أن يقول الرجل للخاطِب : زوجتُكَ إبنتي ، فيقول الخاطِبُ : قَبِلت . فهذا العقدُ مُنجِز ، ومتي إستوفي شروطه صح وترتبت عليه آثارهُ . ثُمَ إن صيغة العقد قد تكون مُعلَقة علي شرط ، أو مُضافة إلي زمن مُستَقبَل ، أو مقرونة بوقت مُعين ، أو مُقترِنة بشرط ، فهي في هذه الأحوال لا ينعقد بها العقد ، وإليك بيان كُلٍ علي حدة .
1- الصيغة المُعلقة علي شرط : وهي أن يجعل تحُقق مضمونها مُعلَقَاً علي تحقُق شئٍ آخر بأداة من أدوات التعليق ، مثلُ أن يقول الخَاطِب : إن إلتحقت بالوظيفة تزوجتُ إبنَتَك ، فيقولُ الأبُ : قَبِلت - فإن الزواج بهذه الصيغة لا ينعقد ، لأن إنشاء العقد مُعلَق علي شئٍ قد يكون وقد لا يكون في المُستقبَل . وعقد الزواج يُفِيد مُلك المُتعة في الحال ، ولا يترَاخي حُكمه عنهُ ، بينما الشرطُ هو الإلتحاق بالوظيفة - معدوم حال التكلُم ، والمُعلَق علي المعدوم معدوم ، فلم يوجد زواج . أما إذا كان التعليق علي أمرٍ مُحقَق في الحال فإنَ الزواج ينعقِد ، مثل أن يقول : إن كانت إبنَتُكُ سِنَهَا عِشرونَ سَنة تزوجتُها ، فيقول الأبُ : قَبِلتُ ، وسنُهَا فِعلاً عشرون سَنة ، وكذلِك إن قالت : إن رَضِيَ أَبيِ تزوجتُك ، فقال الخاطِب قَبِلت . وقال أبوها في المجلِس : رَضيت . إذ أن التعليق في هذا الحال صوري ، والصيغة في الواقع مُنجِزة .
2-الصيغة المُضافة إلي زمن مُستقبَل : مثل أن يقول الخاطِب : تزوجتُ إبنَتَك غداً أو بعد شهر ، فيقول الأب : قبلت ، فهذه الصيغة لا ينعقد بها الزواج ، لا في الحال ولا عنِد حلول الزمن المضاف إليه ، لأن الإضافة في المستقبل تُنافي عقد الزواج الذي يوجِب تمليك الإستمتاع في الحال .
3- الصيغة المُقترنة بتوقيت العقد بوقت مُعيَن : كأن يتزوج مدة شهر أو أكثر أو أقل ، فإن الزواج لا يحل ، لأن المقصود من الزواج دوام المُعاشرة للتوالد ، والمُحافظة علي النسل ، وتربية الأولاد . ولهذا حكم الفُقَهَاء علي زواج المُتعة والتحليل بالبُطلاَن ، لأنه يُقصَد بالأول مُجَرد الإستمتاع الوقتي ، ويُقصد بالثاني تحليل الزوجة لزوجها الأول ، وإليك تفصيل القول في كُلٍ منهُما :
( زواج المُتعـــــــــــة )
ويُسمَيَ الزواج المُؤقت ، والزواج المُنقَطِع ، وهو أن يعقد الرجل علي المرأة يوماً أو إسبوعاً أو شهراً ، وسُميَ بالمُتعة : لأن الرجل ينتفع ويتبلغ بالزواج ويتمتع إلي الأجل الذي وَقَتهُ ، وهو زواج مُتَفَق علي تحريمه بين أئمة المذاهِب ، وقالوا أنه إذا إنعقد يكون باطِلاً واستدلوا علي هذا :
أولاً: أن هذا الزواج لاتتعلق به الأحكام الواردة في القُرآن الكريم بصدد الزواج ، والطلاق ، والعِدة ، والميراث ، فيكون باطِلاً كغيره من الأنكحة الباطِلة .
ثانياً: إن الأحاديث جاءت مُصرحة بتحريمه . فعن سبُرة الجُهَني : " أنه غزا مع النبي صلي الله عليه وسلم في فتح مكة فأذِن لهم النبي صلي الله عليه وسلم في مُتعة النساء . قال : فلم يخرج منها حتي حَرَمَهَا رسول الله صلي الله عليه وسلم " . وفي لفظ رواه ابنُ ماجة : أن رسول الله صلي الله عليه وسلم حَرّم المُتعة فقال : " ياأيُهَا الناس إنِي كُنتُ أَذَنتُ لَكُم في الإستمتاع ، ألاَ وإِنَ اللهَ حَرَمهَا إِلي يومِ القِيامة " . وعن عليِ رَضِيَ اللهُ عنهُ " أنَ رسول الله صلي الله عليه وسلم نَهَيَ عن مُتعِة النِساء يوم خيبر " ،أما الإمام الشافعي فقد قال " لاأعلم شيئاً أحلهُ الله ثم حرمه ثم أحله ثم حرمه ، إلا المُتعة ".
ثالثا : أن عمر رضي الله عنه حرمها وهوعلي المنبرأيام خِلاَفته ، وأقرهُ الصحابة رضي الله عنهم ، وماكانوا ليقُرُوهُ علي خطأ لو كان مُخطِئاً .
رابعاً : قال الخطابي: تحريمُ المُتعة كالإجماع إلا عن بعض الشيعة . ولا يصحُ علي قاعدتهم في الرجوع في المخالفات إلي عليِ ، فقد صح عن عليِ أنهَا نُسِخَت . ونقل البيهقي عن جعفر ابن محمد أنه سُئل عن المُتعة فقال هي الزِني بعينه .
خامساً: ولأنه يقُصد به قضاء الشهوة ، ولاَيُقصَد به التناسُل ، ولا المحافظة علي الأولاد ، وهي المقاصد الأصلية للزواج ، فهو يُشبه الزِنيَ من حيثُ قصد الإستمتاع دون غيره . ثم هو يضُر بالمرأة ، إذا تُصبِح كالسِلعة التي تنتقل من يد إلي يد ، كما يضُر بالأولاد ، حيثُ لاَيجدون البيت الذي يستقرون فيه ، ويتعهدهم بالتربية والتأديب . وقد رُويَ عن بعض الصحابة وبعض التابعين أنَ زواج المُتعة حلال ، واشتهر ذلك عن ابن عباس رضيَ الله عنه . وفي تهذيب السُنَن : وأمَا بن عباس فإنه سَلكَ هذا المَسلَك في إِباَحَتهَا عِندَ الحاجة والضرورة ، ولم يُبحهَا مُطلَقَاً ، فلما بلغه إِكثار الناس منها رجع . وكان يحمِلُ التحريم علي من لم يحتَج إليها . قال الخطابي : إن سعيد بن جُبير قال : قُلتُ لابن عباس : هل تدري ماصنعت ، وبِمَ أفتيت ؟ قد سارت بفتواك الرُكبان ، وقالت فيه الشُعراء . قال : وما قالوا ؟ قُلت قالوا :
قد قُلتُ للشّيخ لَمَا طَالَ مَحبَسَهُ ....... يَاصَاحِ هَل لَكَ فِي فُتيَا ابن عَبّاس ؟
هَل لَكَ في رَخصَةِ الأَطرَاَفِ آَنِسَةً .......... تَكُونُ مَثوَاَكَ حَتّي رَجعَةِ النَاسِ ؟
فقال ابن عباس : "إنا لله وإنا إليه راجعون - والله مابهذا أفتيت ، ولا هذا أردت ، ولا أحللت إلا مثل ما أحل الله الميتة والدم ولحم الخنزير ، وما تحُل إلا للمُضطر ، وماهي إلا كالميتة والدَمَ ولحم الخِنزيِر " . وذهبت الشيعةُ الأمامية إلي جوازِه وأركانه عِندَهُم .
1- الصيغـــــــــــة : أي أنه ينعَقِدُ بلفظ " زوجّتُك"و " أنكَحتُك" و " مَتَعّتُك " .
2- الــــــــــزوجة : ويُشتَرَط كونها مُسلِمة أو كِتَابية . ويُستحَب إختيار المؤمِنَة العفيفة ويُكرَه بالزَانية .
3- المهـــــــــر : وَذِكرُهُ شَرط ، ويكفي فيه المُشاهدة ، ويتَقَدر بالتراضي ولو بكف من بُر " قمح " .
4- الأجـــــــــــــــل : وهو شرطُ في العقد ، ويتقرر بتراضيهما كاليوم والشهر والسنة ، ولاَبُد من تعيينه .
ومن أحكام هذا الزواج عِندهُم : 1-الإخلال بذكر المهر مع ذِكر الأجل يُبطِلُ العقد ، وذكر المهر من دون ذِكر الأجل يقلبهُ دائماً .
2- ويُلحَقُ بهِ الولدُ 3- لايقعُ بالمُتعة طلاقُ ولاَ لِعَانُ . 4- لا يثبُتُ به ميراث بين الزوجين . 5- أما الولد فيرثهُما ويرثانه . 6- تنقضي عدتها إذا انقضي أجلهَا بحيضتين ، إن كانت ممن تحيض ، فإن كانت ممن تحيض ولم تحض فعدتها خمسةُ وأربعون يوماً .
تحقيق الشوكــــــــاني : ( وعلي كل حال فنحنُ مُتعبدون بمَا بلغنا عن الشارِع ، وقد صح لنَا عنه التحريم المؤبد . ومُخالفة طائفة من الصحابة له غير قادحة في حجيته ، ولا قائمة لنا بالمعذرة عن العمل به . كيف والجمهور من الصحابة قد حفظوا التحريم وعملوا به ورووه لنا ، حتي قال ابنُ عمر فيما أخرجه عنه بن ماجة بإسنادٍ صحيح " أن رسول الله صلي الله عليه وسلم أَذِنَ لنا في المُتعة ثلاثاً ثم حَرَمّها ، والله لاأعلم أحداً تمتع وهو مُحصَنُ إلاَ رجمتَهُ بالحِجارة ) . وقال أبو هُريرة فيما يرويه عن النبي صلي الله عليه وسلم ( هَدَمَ المُتعة الطلاقُ والعِدة والميرَاث ) أخرجهُ الدارقطني وحسنهُ الحَافِظ . ولايمنع من كونه حسناً كون إسناده فيه مؤمل بن إسماعيل ، لأن الإختلاف فيه لا يُخرِجُ حديثه عن حد الحسن إذا إنضم إليه من الشواهِد مايُقويه كما هو شأن الحسن إذا إنضم إليه من الشواهِد مايُقويه كمَا هو شأن الحسن لغيره ، وأمَا مايُقال من أن تحليل المُتعة فمجمع عليه ، والمجمع علي قطعي ، وتحريمها مُختَلفُ فيه ، والمُختَلَف فيه ظنّي ، والظنّي لا لاينسخ القطعي ، فيُجاب عنه : أولاً بمنع هذه الدعوي ( أعني كون القطعي لاينسخهُ الظَنّي ) فما الدليلُ عليهَا ؟ ومُجرَد كونها مذهب الجمهور غير مُقنِع لمن قام في مقام المنع بسائل خصمه عن دليل العقل والسمع بإجماع المسلمين ، وثانياً بأن النسخ بذلك الظنّي إنما هو لإستمرار الحِل ، والإستمرار ظني لا قطعي . وأمَا قراءة بن عباس وابن مسعود وأُبيِ بن كعب وسعيد بن جُبير ( فما إستمتعتُم به مِنهُن إلي أجَلٍ مُسميَ ) -فليست بقُرآن عِندَ مُشتَرَطي التواتر ، ولا سُنة لأجل روايتَهَا قُرآنَاً ، فيكون من قبيل التفسير للآية ، وليس ذلك بحجة وأمَا عند من لم يشترط التواتر فلا مانع من نسخ ظني القرآن بظني السُنة ، كما تقرر في الأصول .
العقد علي المرأة وفي نية الزوج طلاقهـــــــا : إتفق الفُقهاء علي أن من تزوج إمرأة دون أن يشترط التوقيت وفي نيته أن يُطلقها بعد زمن ، أو بعد إنقضاء حاجته في البلد الذي هو مقيم به فالزواج صحيح . وخالف الأوزاعي فاعتبرهُ زواج مُتعة . قال الشيخ رشيد رضا تعليقاً علي هذا في تفسير المنار: " هذا وإن تشديد علماء السلف والخلف في منع المُتعة يقتضي منع النِكاح بنية الطلاق ، وإن كان الفقهاء يقولون : إن عقد النِكَاح يكون صحيحاًً إذا نوي الزوج التوقيت ولم يشترطه في صيغة العقد .ولكن كِتمَانه إِياه يُعدُ خِدَاعاً وغِشاً ، وهو أجدرُ بالبُطلاَن من العقد الذي يُشتَرَط فيه التوقيت الذي يكون بالتراضي بين الزوج والمرأه ووليها ، ولايكون فيه من المفسدة إلا العَبَث بهذه الرابطة العظيمة التي هي أعظم الروابط البشرية ، وإيثار التنقُل في مراتِع الشهوات بين الذواقين والذواقات ، ومايترتب علي ذلك من المُنكِرات... ومالايُشتَرَط فيه ذلك يكون علي إشتماله علي ذلك غِشاً وخِداعاً تترتب عليه مفاسد أُخري من العداوة والبغضاء وذهاب الثقة حتي بالصادقين الذين يريدون بالزواج حقيقته ، وهو إحصان كُلٍ من الزوجين للأخر ، وإخلاصه له ، وتعاونهُمَا علي تأسيس بيت صالح من بيوت الأُمَة .